فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا لِمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ إِتْقَانٍ، كَبَعْضِ فُقَهَاءِ هَذَا الزَّمَانِ، وَقَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدْ أَنْكَرَ اللهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. اهـ. وَنَحْنُ نَقُولُ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا لِمَنْ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَعَالَى بِنَصِّ كِتَابِهِ، كَالتَّحْرِيمِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، أَوْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ غَيْرِ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ: لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ فِي شَيْءٍ إِنَّهُ حَرَامٌ إِلَّا مَا كَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللهِ بِلَا تَفْسِيرٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوَاعِدُ أَشَرْنَا إِلَى ثَلَاثٍ مِنْهَا:
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ مِنَ الْأَرْزَاقِ نَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ يُحَرِّمُونَ أَكَلَ اللُّحُومَ، وَلَهُمْ عَلَى هَذَا شُبْهَتَانِ:
الشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَدِيمَةٌ وَهِيَ زَعْمُهُمْ أَنِّ أَكْلَ لَحْمِ الْحَيَوَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَذْكِيَتِهِ بِالذَّبْحِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ تَعْذِيبٌ مُسْتَقْبَحٌ عَقْلًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَهْلٌ، فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ تَعْذِيبًا وَرُبَّمَا كَانَتْ أَهْوَنَ مِنْ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ كَافْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ تَرَدٍّ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، أَوِ انْخِنَاقٍ بَيْنَ شَجَرَتَيْنِ مَثَلًا، أَوْ نِطَاحٍ، أَوْ وَقْذِ رَاعٍ قَاسٍ أَوْ مُتَعَدٍّ آخَرَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ (5) أَكْلَ مَا مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَالَّذِي يَمُوتُ حَتْفِ أَنْفِهِ وَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ تَعْذِيبِ أَيِّ ذِي رُوحٍ وَحَثَّ عَلَى رَحْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ ثَابِتٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَالذَّبْحُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُؤْلِمُ الْحَيَوَانَ إِلَّا لَحْظَةً قَصِيرَةً، وَالْحَيَوَانَاتُ لَا تَشْعُرُ بِالْأَلَمِ بِقَدْرِ مَا يَشْعُرُ بِهِ الْبَشَرُ كَمَا قَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ.
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: حَادِثَةٌ وَهِيَ مَا يَزْعُمُهُ النَّبَاتِيُّونَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْأَغْذِيَةَ النَّبَاتِيَّةَ عَلَى الْحَيَوَانِيَّةِ مِنْ كَوْنِ أَكْلِ اللُّحُومِ ضَارًّا لِلنَّاسِ، وَجَوَابُنَا عَنْهَا أَنَّهُمْ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ أَكْلَ اللَّحْمِ يَضُرُّ كُلَّ آكِلٍ مِنْهُمْ مُطْلَقًا فَهَذَا زَعْمٌ تُبْطِلُهُ التَّجَارِبُ وَيُنْكِرُهُ أَكْثَرُ أَطِبَّاءِ الْعَالَمِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَضُرُّ بَعْضَهُمْ كَأَصْحَابِ أَمْرَاضِ التَّرَفِ وَضِعَافِ الْمَعِدَةِ كَالرَّئْيَةِ وَالنِّقْرِسِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِالْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي الْمَضَارِّ الْحَظْرُ، وَمِنْهُ عَامٌّ وَخَاصٌّ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ تَشْرِيعَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الدِّينِيِّ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنَّ جَعْلَهُ لِغَيْرِهِ شِرْكٌ بِهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ.
{الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ} أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ وَسَخَّرَهُ لَنَا مِنْ سَائِرِ مَنَافِعِ الْكَوْنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالرِّزْقِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفَحْوَى، وَبِنَاءُ الْمِنَّةِ فِيهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2: 29).
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} سَجَّلَ عَلَيْهِمْ جَرِيمَةَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ اخْتِلَاقُهُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهِ مُشِيرًا إِلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَشَدَّةِ عِقَابِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِغَيْرِ عِقَابٍ عَلَى جَرِيمَةِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ تَعَمُّدُهُ فِي حَقٍّ خَاصٍّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ نِزَاعٌ لَهُ فِيهَا وَشِرْكٌ بِهِ، كَمَا قَالَ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} (42: 21) الآية. فَوَيْلٌ لِلْمُعَمِّمِينَ مِنْ جُهَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ، وَهُمْ يَتْلُونَ قَوْلَهُ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (16) 116، 117.
{إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ بِمَفْهُومِهِ تَعْلِيلًا لِمَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهَا مِنْ عِقَابِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ عَدْلًا اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا ظُلْمًا مِنْهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ فَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَشَدَّ التَّوْكِيدِ، فَأَفَادَ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لَهُمْ إِذَا قَابَلُوا أَكْبَرَ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، بِأَشَدِّ الْكُفْرِ وَأَنْكَرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَغْرَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ. وَالْمَعْنَى: تَاللهِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَكُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْلَ فِيمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الْإِبَاحَةَ وَجَعَلَ حَقَّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، لِكَيْلَا يَتَحَكَّمَ فِيهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ- بَرَاءَةٌ- وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَلِهَذَا أَبَاحَ لَهُمْ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَكَانَ تَرْكُهُ أَضَرَّ مِنْ تَنَاوُلِهِ، وَحَصَرَ أُصُولَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6: 145) وَفَصَّلَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5: 3) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَجِبُ، كَمَا قَالَ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (34: 13) فَيَجْنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْغُلُوِّ فِي الزُّهْدِ، وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَزِينَةِ اللِّبَاسِ، ابْتِغَاءَ الشُّهْرَةِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْرِيمُهُ تَعَبُّدًا وَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِالْوَسَطِ وَالِاعْتِدَالِ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} (65: 7) الآية أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي الْحَوْصِ، وَهُوَ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مَالٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «مِنْ أَيِّ الْمَالِ»؟ قُلْتُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ فَقَالَ: «إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيَرَ عَلَيْكَ» الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْهُ: «إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتُهُ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْكَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهُ عَلَى عَبْدِهِ حَسَنًا، وَلَا يُحِبُّ الْبُؤْسَ وَلَا التَّبَاؤُسَ» وَالشُّكْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ بِحَسْبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ، وَهِيَ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَلِعِبَادِهِ مِنَ اسْتِعْمَالِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ، وَمُوَافَقَةِ سُنَنِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الصَّبْرُ، وَهُوَ مَا يَجِبُ فِي حَالِ وُقُوعِ الْمَكَارِهِ وَالِابْتِلَاءِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ وَيُضَادُّ الشُّكْرَ الْكُفْرُ وَهُوَ قِسْمَانِ: كُفْرُ النِّعَمِ، وَكُفْرُ الْمُنْعِمِ، وَأَنْصَحُ لِلْقَارِئِ أَنْ يُطَالِعَ كِتَابَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنْ إِحْيَاءِ الْعُلُومِ لِلْغَزَالِيِّ.
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِفَضْلِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ، وَبِكَوْنِ أَكْثَرِهِمْ لَا يَشْكُرُونَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ- عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ تَذْكِيرَهُ لَهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، وَبِكُلِّ مَا فِي الْعَوَالِمِ عُلْوِيِّهَا وَسُفْلِيِّهَا، لِيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَبَدَأَ بِخِطَابِ أَعْظَمِهِمْ شَأْنًا فِي أَعْظَمِ شُئُونِهِ فَقَالَ: {وَمَا تَكُونُ} أَيُّهَا الرَّسُولُ {فِي شَأْنٍ} أَيْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ الْمُهِمَّةِ الْخَاصَّةِ بِكَ أَوِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُعَالِجُ بِهَا أَمْرَ الْأُمَّةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، إِنْذَارًا وَتَبْشِيرًا، وَتَعْلِيمًا وَعَمَلًا: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الشَّأْنِ مِنْ قُرْآنٍ أُنْزِلَ عَلَيْكَ، تَعَبُّدًا بِهِ أَوْ تَبْلِيغًا لَهُ، فَـ (مِنْ) الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَوِ الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) لِلْكِتَابِ لِأَنَّ السِّيَاقَ بَلِ السُّورَةَ كُلَّهَا فِيهِ، وَإِضْمَارُهُ قَبْلَ الذِّكْرِ ثُمَّ بَيَانُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وَقِيلَ لِلَّهِ، لِذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَالتَّعْبِيرُ فِي خِطَابِهِ صلى الله عليه وسلم بِالشَّأْنِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ أَوْ ذُو الْبَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أُمُورِهِ وَأَعْمَالِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ عَظِيمَةً حَتَّى الْعَادَاتِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِيهَا كُلِّهَا {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي كُلِّ شُئُونِهَا وَأَعْمَالِهَا، بَعْدَ خِطَابِ رَأْسِهَا وَسَيِّدِهَا فِي أَخَصِّ شُئُونِهِ وَأَعْلَاهَا، فَتُذَكِّرُكَ الْآيَةُ فِي أَخْصَرِ الْأَلْفَاظِ وَأَقْصَرِهَا بِأَفْضَلِ مَا أَتَاكَ اللهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَنِعْمَةٍ، وَتَنْتَقِلُ بِكَ إِلَى كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُهُ مِنْ شُكْرٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ كَمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنَّ مَجِيءَ. {عَمَلٍ} نَكِرَةً مَنْفِيَّةً يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَدُخُولَ {مِنَ} التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ يُؤَكِّدُ هَذَا الْعُمُومَ، فَيَشْمَلُ أَدَقَّ الْأَعْمَالِ وَأَحْقَرَهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (99: 7، 8): {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} أَيْ رُقَبَاءَ مُطَّلِعِينَ عَلَيْكُمْ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ تَخُوضُونَ وَتَنْدَفِعُونَ فِيهِ، فَنَحْفَظُهُ لِنَجْزِيَكُمْ بِهِ، وَأَصْلُ الْإِفَاضَةِ فِي الشَّيْءِ أَوْ مِنَ الْمَكَانِ الِانْدِفَاعُ فِيهِ بِقُوَّةٍ أَوْ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي {أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (2: 198): {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} أَيْ وَمَا يَبَعْدُ عَنْهُ وَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ {يَعْزُبُ} بِضَمِّ الزَّايِ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهَا- وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَبَ الرَّجُلُ يَعْزُبُ بِإِبِلِهِ، أَيْ يَبَعْدُ وَيَغِيبُ فِي طَلَبِ الْكَلَأِ الْعَازِبِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِفَلَاةٍ بَعِيدَةٍ حَيْثُ لَا زَرْعَ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُنْفَرِدٌ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبٌ أَيْ مُنْفَرِدٌ لَا زَوْجَ لَهُ أَوْ لَهَا وَيُقَالُ: أَمِرْأَةٌ عَزَبَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي أَعْزَبَ وَعَزْبَاءَ. وَنَفِيُ عُزُوبِ الشَّيْءِ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى أَخَصُّ وَأَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْغَيْبَةِ أَوِ الْخَفَاءِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْإِفَاضَةَ فِي الْعَمَلِ أَخَصُّ مِنْ إِتْيَانِهِ مُطْلَقًا، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ اللَّفْظِ الْأَعَمِّ مِنْهَا، هِيَ أَنَّ مَا يَفِيضُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مُهْتَمًّا بِهِ مُنْدَفِعًا فِيهِ جَدِيرٌ بِأَلَّا يَنْسَى أَوْ يَغْفُلُ عَنْ مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ فِيهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ، فَاللَّفْظُ يُذَكِّرُهُ بِهِ تَذْكِيرًا مُنَبِّهًا مُؤَثِّرًا، وَكَذَلِكَ لَفْظُ {يَعْزُبُ} الدَّالُّ عَلَى الْخَفَاءِ وَالْبَعْدِ مَعًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَبْعُدَ وَيَخْفَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، أَيْ أَقَلُّ شَيْءٍ يَبْلُغُ وَزْنُهُ ثِقَلَ ذَرَّةٍ وَهِي النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الصِّغَرِ وَالْخِفَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقَةِ مِنَ الْهَبَاءِ وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي لَا يُرَى إِلَّا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى إِلَى الْبُيُوتِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ أَيْ فِي الْوُجُودِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ أَهْلِهَا وَأَخَّرَهُ فِي آيَةِ سَبَأٍ (34: 3) وَقَدَّمَ السَّمَاءَ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَوَصَفَهُ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ، فَإِنَّ فِيهَا مِنَ الشُّمُوسِ وَعَوَالِمِهَا مَا يَبْعُدُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ مَسَافَةَ أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي تُقَدَّرُ أَبْعَادُهَا بِسُرْعَةِ النُّورِ، كَمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ هَذَا الْعَصْرِ {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} هَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ قَائِمٌ بِرَأْسِهِ، مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِتَعْبِيرٍ أَدَقَّ وَأَشْمَلَ و{لَا} فِيهِ نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَيْ وَلَا شَيْءَ أَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ وَهُوَ مَا لَا تُبْصِرُونَهُ مِنْ دَقَائِقِ الْكَوْنِ كَمَا قَالَ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} (69: 38 و39) وَلَا أَكْبَرَ مِنْهَا وَإِنْ عَظُمَ مِقْدَارُهُ كَعَرْشِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِـ {أَصْغُرُ} بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَخْفَى تَوْجِيهُهُ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى أَهْلِهِ. قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَصْغَرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَكْبَرَ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَكَوْنِ الْأَكْبَرِ لَا يَكْبُرُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْغَرَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أَيْ إِلَّا وَهُوَ مَعْلُومٌ وَمَحْصِيٌّ عِنْدَهُ وَمَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ تَامِّ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَقَادِيرُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إِكْمَالًا لِلنِّظَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ فِي تَفْسِيرِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (6: 59) الآية مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَرَاجِعْهُ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ أَشْيَاءَ لَا تُدْرِكُهَا الْأَبْصَارُ، وَقَدْ رُؤِيَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْآلَاتِ الَّتِي تُكَبِّرُ الْمَرْئِيَّاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ حِكْمَتُهَا لِلنَّاسِ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَتَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِمَا لَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إذ تفيضون فيه} قال: إذ تفعلون.
وأخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وما يعزب} قال: ما يغيب.
وأخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه. مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} قال: لا يغيب عنه وزن ذرة: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قال: هو الكتاب الذي عند الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}
قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ}: ما نافية في الموضعين، ولذلك عَطَفَ بإعادة لا النافية، وأَوْجب بإلا بعد الأفعال لكونها منفيةً. و{في شأن} خبر {تكون} والضميرُ في {منه} عائدٌ على {شأن} و{مِنْ قرآن} تفسير للضمير، وخُصَّ من العمومِ، لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شؤونه صلى الله عليه وسلم. وقيل: يعودُ على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن، وإنما أَضْمَرَ قبل الذكرِ تعظيمًا له. وقيل: يعود على الله، أي: وما تتلو مِنْ عند الله من قرآنٍ. وقال أبو البقاء: من الشأن، أي: مِنْ أجله، و{من قرآن} مفعول {تتلو} و{مِنْ} زائدةٌ. يعني أنها زِيْدت في المفعول به، ومن الأولى جارةٌ للمفعولِ مِنْ أجله، تقديره: وما تتْلو من أجل الشأن قرآنًا، وزِيْدَت لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ والمجرور نكرةٌ. وقال مكي: {منه} الهاء عند الفراء تعود على الشأن على تقديرِ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: وما تتلو من أجل الشأن، أي: يحدث لك شأنٌ فتتلو القرآنَ من أجله.